رسائل من الدوحة

متغربين إحنا.. متغربين آه.. تجري السنين و إحنا .. جرح السنين.. آه.. لا حد قال عنا خبر يفرحنا و لا حد جاب منا كلمة تريحنا .. تريحنا

السبت، 20 ديسمبر 2008

الرسالة العاشرة.. 2008.." بيض ممشش و بيض زفر "


ميدوس و دودي :

أحب الحبايب :

أعتقد أن ثمة عقداً آخر من الزمان لا بد من انتظاره ريثما نتأكد من قدرتكما على قراءة هذه الرسالة.. و ربما تحتاجان لعقد ثالث لفهم كنه محتواها.



دانا و محمود :

هذه أول مرة أراسلكما و أصوات صرخاتكما الجميلة.. المزعجة تطن في أذني.. تطربني .. تزعجني .. و لكني أدعوا الله ألا يحرمني منها سوى لدقائق معدودة لالتقاط الأنفاس.

" وليد و رندة في الفضاء "
عارفين يا أولاد:
لا داع لأن أقسم أني أشعر بقربي لكما في السن.. فمشاعر الطفولة لصيقة بالإنسان .. إلا أنه لا يسعى لعلاج هذا الالتصاق.. و لكن ثمة قليل من المواقف والأحداث تدق ناقوس الزمن لتنبهني و تصرخ في أذني :" أفيقي .. الزمن يمضي بسرعة الصوت، و لم تعودِي بعد طفلة صغيرة".
ثمة أشخاص لم نقابلهم أو نراهم و نحن أطفال و نفاجأ بعد فترة أنهم هرموا.. فندرك أن السنوات لا بد أنها مرت علينا كما مرت عليهم وعلى الجميع.
ثمة جدود مضوا .. تبعهم أباء رحلوا، ليذكرونا أن دورنا أت أت.. و العجلة ستدور بنا أو بدوننا.
ثمة زمن كنا ننادي فيه الجميع بألقاب .. ثم يدور الزمن، و نجد أنفسنا ننادى بألقاب إكبار..
و لكنها تشعرنا بالكِبَر!
منذ أسبوع - يا أولاد- شاهدت أحد البرامج تستضيف السيناريست "رفيق الصبان" و قد ظهرت عليه ملامح الزمن، فأدركت أنه لم يكبر وحده، فقد كنت أراه أحيانا في مدرسة "خالو وليد "و هو يأتي لاصطحاب ابنه " زيد ".
و منذ يومين بدأت أتابع مسلسل " الفريسة و الصياد" و سبب متابعتي أن بطل المسلسل ممدوح عبد العليم كان سبب إحدى مشاجراتي مع" خالو وليد" و نحن صغار.. فلقد كان ممدوح عبد العليم بطل مسلسل أطفال في أواخر السبعينات اسمه " وليد و رندة في الفضاء" و كان" خالو وليد " يتعمد إغاظتي كون بطل المسلسل يحمل اسمه، بينما بطلة المسلسل لا تحمل اسم داليا!

و لا أعتقد إنكما تتوقعان أن درجة سذاجة أمكما و خالكما في ذلك الوقت كانت تسمح لهما بعد الأسماء التي تذكرها ماما "عفاف الهلاوي" في برنامجها الأسبوعي "سينما الأطفال" و الذي تذكر فيه عدد لا حصر له من الأسماء لإٌهدائهم فقرات البرنامج.. و كان الفائز منا هو الذي يتم ذكر اسمه أكثر من أخيه .. و الجائزة هي " قبلة مقابل قبلة" أو" بوسة لبوسة "كما كنا نسميها زمان.

الغريب أني رأيت علامات الزمن قد غيرت ملامح ممدوح عبد العليم الذي كنا نراه- دون سوانا - فتي صغير شيبه بجارنا سامح زخاري.. و كنا متفقين أيضا أن نجيب الريحاني- من وجهة نظرنا- يشبه جدو نجاح شقيق جدتنا "ماما صفية"!

و كبرنا - يا محمود - وعرفنا أننا لسنا وحدنا بهذه السذاجة بل أن الدول تتسابق لذكر أسماؤها في المحافل الدولية بشكل أكبر، حتى قيل أنه و تحت شعار:

“ We have Budget ”

أجادت قطر من خير خزانتها بنحو ثلاث مليارات من "الأخضر" على إنشاء بنية إلكترونية خاصة بإقامة دورة الألعاب الأسيوية الخامسة عشر.. و الرقم 15 مليار هو الأقرب إذا ما أردنا حساب مجمل ما تكبدته قطر لرفع اسمها خفاقا عاليا في عالم الرياضة الدولية.

أما المصريون .. الفراعنة .. فقد أصيبوا " باللوثة الكبرى" التي قضت على جميع مشاكلهم و مصائبهم وأنستهم في لحظة " النصر الكروي العظيم" الذي حققه الأسود على الأفيال، نسوا كل همومهم و ألامهم.. و احتفلوا بالعرسان و بالعرس الكروي القومي المصري الفرعوني الأممي الذي رفع إسم مصر بشكل علوي .. فقد أصابهم الإنجاز الساحق بنعمة " ال زهايمر" فنسوا مشاكل الغلاء و أسعاره .. نسوا طوابير العيش .. نسوا أن كيلو العدس ارتفع لتسع جنيهات .. نسوا ضحايا العبارة و الغرقى .. نسوا الفقر و العشوائيات و التحرشات .. نسوا الأزمات الاقتصادية و البطالة.. نسوا الشباب الذي مات على شواطئ المهجر .. نسوا القطارات و الحرائق.. نسوا عمارات الموت في" لوران" التي سقطت بمن فيها و على من فيها .. نسوا أكياس الدم الملوثة و نسوا المظاهرات و" كفاية "..

و لكنهم تذكروا واجب الإحتفال بالعرس الكروي و بال11 عريس و مدربيهم و مدلكيهم و أجهزتهم التي حققت للشعب المصري في لحظة ما، هدف .. هدف أصاب مرمى الخصم في ماتش،علما بأنه خصم من أدغال أفريقيا .. "يعني لم يكسبوا فريق أوروبي عليه القيمة مثلا"!
فنستطيع القول أن11 فرد نجحوا في تخدير الشعب المصري و هو ما عجزت عنه تجارة لمخدرات في مصر كما عجزت عنه الحكومات على تواليها بدءا من حكومة فؤاد محي الدين و حتى حكومة نظيف!

ضربة كانت من معلم

لقد أصيب الشعب المصري- يا أولاد - بحالة هوس معتقدين أنهم تحت مسمى " الإنجاز الرياضي العظيم" قد حققوا إنتصارا في الواقع و بطولة حقيقية و ليست افتراضية .. فحنوا لأمجاد زمان وعادوا يقولون :" المصريين أهمه " و ما يجيبها إلا رجالها " و "ضربة كانت من معلم" و" عملوها الرجالة" و تحول اللاعبون إلى أبطال حققوا إنتصار عظيم.. حتى كدت أظن أن فرحة المصرين بالفوز بكأس الأمم الأفريقية فاق فرحتهم بنصر العاشر من رمضان..أو لربما كان المصريون في أشد الحاجة لمن يعيد وضع اسم مصر في دائرة الضوء من جديد بشكل لائق و كريم ..
والطريف أن معظم الدول العربية قد فرحت مع و ل " أم الدنيا "حتى أن كثير من دول الخليج قد قامت بما نسمه بالبلدي" نقطوا العرسان في الفرح المصري" و رغم أن الأعراف تجمع على أن النقوط .. دين واجب السداد .. إلا أنه يقينا لن ترد الحكومة المصرية هذا الدين إذا ما قام الفريق الإماراتي- على ثبيل المثال لا الحصر- بالفوز بخليجي 19 للمرة الثالثة.
ليت شعري

أشعارنا كالتصريحات.. سيل من الشعارات
درب من المهاترات.. تلال بيانات
أشعارنا بالصبح صرخات.. و بالليل أنات
أشعارنا كلها آهات
أشعارنا كالجنيهات .. لا كالدولارات
أشعارنا كالدراسات .. قابعة في الملفات
غير مجدية .. ليتها كانت رياضات
ليت شعري
ليت شعري كرة مدرب، ملعب أو مسابقات
ليت شعري غنوة، فيلم، رقصة أو استعراضات
تنجح.. تكسب المليارات
(داليا الحديدي)

الأم تضحية و التضحيات ديون

ميدي القمر و مادونا البيضة السكرة:

أتمنى أن تدركا في يوم ما، ما تعنياه لي و لبابي ياسر .. فكل كلمة تصدر منكما تلطف من غربتنا .. فكم نعشق الحضن الفجائي الذي نتلقاه منك - يا محمود- دون سابق إنذار.. و كم نتلهف على قبلة دانة الجميلة، أما ما تقوم به أحيانا فترفع يدي و تلثمها، فهذا يشعرني بأن الزمن توقف للحظة.. ليضعني في الجنة.. حتى ضربات دانا لنا تذكرني بأغنية ليلي مراد " لما يخاصمني افرح و " ربما لأننا ننتظر بعدها و نتوقع لحظة مصالحتها و " أوما"! و لا استطيع وصف سعادتي حينما فككت شفرة لغتك الجميلة و فهمت أنك تقول لي:" أحضني ماميتو" اهرشلي ماميتو" "إعمللي كورن فليكس ماميتو" يا الله ماييتو.. محمود زعلان .. تعالى صالح محمود ماميتو.. للالا تعالى للا.. لللا تعالى ماميتو لحسن محمود يموت.. و أنت تعيط !!"

كم أود- يا محمود - أن تكون غافلاً عن أي تعب نشعر به، و أحيانا تنتابني مشاعر مختلطة من الدهشة و الانزعاج حينما تقول لي: " أنت تعبان ماميتو.. هلاص .. احنا نشتري لمون"
كيف أسامح نفسي إذا لم استطع مجاراتك في كل ما تريد و أنت لك حق مشروع و طاقة جبارة كنت أملك مثلها يوم ما.
أتذكر مامي حين كنا في رحلة إلى تركيا و كنا مقيمين في فندق في إسطنبول على تلة مرتفعة، و كنت ألحظها تحدث نفسها و هي تمشي و تصعد درج التلة.. منهكة.. مقطبة الجبين فتقول: فعلا من الخطأ زواج إنسان مسن بفتاة صغيرة!
فجدتك الملائكية يا محمود كانت تسعى لمجاراتي في الرحلة التي صحبتني فيها خصيصا للتخفيف عني عقب أحد الأزمات .. و كنت جدا ًسعيدة بالسفرة وأتطلع لمشاهدة كل شبر في إسطنبول .. وهي تلهث خلفي على شاطئ البوسفور كما ألهث أنا خلفك على كورنيش الدوحة .. وحينما كانت تبرك مني، كنت أداعبها : مامي.. الأم تضحية هاهاههاه!!
و أعتقد أني هنا لا بد أن أضيف:" نعم الأم تضحية و التضحيات ديون " و كله سلف و دين حتى المشي على الرجلين سواء في اسطنمبول أو في الدوحة يا محمود!
لقد حان وقت القصاص يا محمود و اللهم لا اعتراض!

محمود:
كم نفرح أنا و والدك و نحن نسمع كاظم يغني:
صغير و ِملَعب ..
على قلبي يلعب.. خلينا نروح يا بابا
ينزل دمعاته.. حتى أبوس خديداته
حلوة حركاته يا بابا
جنبي و يتمشى .. و يغمز لي برمشه
يحارشني حرشة يا بابا

دانا:

أنت أيضا - يقينا - كتب لك كاظم رائعته:
البنية حلوة البنية
البنية بتعاكس بيا
هلا هلا هلا
الإيد .. الإيد شوكليتا
والفم .. الفم فديته
والخد.. باستا و بان كيكا
بيها شئ .. لا ما بيها

إلا اجري و أحضنها حضنة
و اقرص تفاحات الوجنة
هذا الخد ما اشبع منه

و كثيراً ما أتوهم أن الأمير الشاعر عبد الرحمن بن مساعد قد أهداني رائعته" بأحكيلك أجمل حكاية" فقط لأرويها لك يا دانتي
باحكيلك أجمل حكاية عن قصة حب و قلبين
صارت بك دنياهم أجمل يا أغلى من ضي العين
جيتي و صرتي أنت الأبدى أنت الدنيا و الأيام
أنت الحاضر..أنت باكر أنت العذب من الأنغام
رب يخلي هذه الضحكة تملا الدنيا فرحة و نور
رب يخلي .. رب يسلم و يحميك من كل شرور

بكرة لما الحلوة تكبر و القامة تطول شبرين
و لما تمسك قلم و دفتر و تدرس علم وعربي و دين
و لما تكبر اكتر و اكتر و يتمم ربي بالخير
و لما نشوف البنت الحلوة تحكي حكاية عن قلبين

دودي الصغنونة البيضة الجميلة :

عارفة يا دودي .. حين كنت - بعد- صغيرة.. كنت أضيق ببعض عبارات المجاملة التي تقال لي مثل " يا بيضة .. يا عسل" ربما كنت أسترخص هذا الكلام و أتعجب ممن تصدر منه كلمات اعتبرتها رخيصة رغم أن مثيلاتها القيمة بنفس الثمن أو لنقل بدون ثمن ..أو ربما يكون السبب أن " بابا جدو محمود" أخبرني أن هذه الكلمات تعد من قبيل المجاملات السوقية .. تخيلي!! و كان يناديني أحيانا بالمانجو و المارون جلاسيه!!

لكني أتعمد وصفك بالبيضة لأن عقب ولادتك ارتفعت أثمان البيض في قطر بشكل تضخمي .. و لم يعد رخيص كما كان.. فمنذ عامين تقريبا كنا نشتري كرتونة البيض - يا بيضة - بسبع ريالات فحسب أما اليوم فتوقفنا عن شرائها لأن ثمنها وصل إلى ثلاثين ريال قطري!

البيضة الممششة

و ربما هناك تفسير "سيكوباتي" لرفضي السابق استخدام كلمة " يا بيضة " للمجاملة.
ففي أحد الأيام حينما كنت لا أتجاوز الثمان سنوات، كنت مصاحبة لأهلي في زيارة لأحد المعارف.

و لن يتاح لمعظم زائري هذه البيت إلا مقابلة أربعة أشخاص من أصل خمسة لهذه العائلة، فالأسرة مكونة من أب و أم وولدين يعيشان في شقة راقية تتكون من ثلاث غرف وحمامين و مطبخ و رسيبشن واسع و شرفة كبيرة، أما غرف النوم .. فالكبيرة للأب والأم و الوسطى للأولاد و هناك غرفة مترين في مترين لأخت الزوجة.
والزوجة هناا- يا دانة- كانت تطلق على أختها الصغرى لقب" البيضة الممششة " حيث كانت ترى أن كثير من العائلات لديهم" بيض سليم" وهم الأبناء الأصحاء.. السلام بدنياً و نفسياً و "بيض أخر ممشش" يتعلق بأي ابن ضعيف أو مصاب بأي نوع من أنواع الإعاقة أو ليست له مهارات إجتماعية أو قدرات علمية كبيرة، كمرضى التوحد أو المرضى النفسيين أو مرضى التأخر الذهني أو المصابون بإعاقات بدنية كالشلل أو الصمم أو أي مرض يعيق الاندماج الاجتماعي بصورته العادية.

دانة :

رغم أن كل ما سيرد في هذه الرسالة لا يتعلق بأشخاص
" مانجوليون " أو مصابون بأي تخلف ذهني، بل فقط أشخاص ليست لديهم القدرات الكافية للتكيف الاجتماعي بسب بوجود أي إعاقة نفسية كانت أو بدنية.. إلا أني أريد أن أضع بين يديك صورة لمجتمع الأسياد الأقوياء و كيف يتعامل مع مجتمع الضعفاء حتى لو كانوا أخوتهم أو أشقائهم من ذات الأب و ذات الأم.. حتى لو كانوا أبائهم أو أمهاتهم و أحيانا أبنائهم .. كيف ينبذهم؟!. كيف يهمشهم؟! كيف يلفظهم؟! كيف يعزلهم؟! كيف يؤلمهم وأحياناً كثيرة.. كيف يسحقهم؟!

مواء القطط .. الضآلة!

أذكر - يا دانة - شعوري عند سماع تعليق هذه السيدة التي وصفت أختها بأنها " بيضة ممششة " و رغم حداثة سني وقتها، إلا أني أتذكر أني لم أجد سوى الثلاث سباب التي كان يذخر بها قاموس شتائمي في هذه الفترة من العمر و التي كنت أتبادلها في الشجار مع خالو وليد"حمار.. كلب.. منيل"!

لقد تراءت في مخيلتي هذه الكلمات و لكنها لم تكن تفي بالغرض ولم تصف ما شعرت به وقتها من رغبة في التقيؤ أو شعور بالغثيان!
ربما كان الإحتقار هو التعبير الصائب، كما أعتقد أني شعرت بسخط مرير كون حديثها عن أختها مر على جميع الحضور الكبار مرور الكرام .. دون رد ساخط أو - حتى - عقد حاجبين للإظهار الرفض أو الإستنكار كما أتذكر وقتها أنه كانت المرة الأولى - يا دانة - التي سمعت فيها ردود الأفعال أو ردود الأقوال على نحو شبيه بأصوات مواء القطط، الضآلة! مجرد أصوات تعني أن هذا موجود في الحياة.. أو ربنا يكون في العون .. أو بمعنى .. هيه دنيا .. ظروف.. كله بثوابه .. عديها وعيشي .. حتى أن واحدة من الحضور أثنت على دقتها في التعبير و كأنها أتت "بالتايهة " !!! وانتشلت السيدة التعاطف الذي كانت تنشده من الحضور!ا

لاحقا، علمت- يا دانا- أن هذه الكائنة والتي علمتني الدرس الأول في الاحتقار قد رزقت فن الاستغلال بشتى أشكاله، استغلال المواقف و استغلال الناس و استغلال المناصب و استغلال المعارف .. فكانت تشيع أنها على صلة وثيقة بعلية القوم من عائلات كالأتاربة و غيرهم و هم يمثلون أحد أكبر العائلات في مصر بعد الأباظية .. علماً بأن الأباظية و الأتاربة في مصر يوازيان الكوارية و العمادي و المعاضيد و المهندي و العبيدان في قطر و القحطانية و المري في السعودية.. و العوضي و المنصور و الكعبي في الكويت.. و عائلات آل روكفلر وكيندي وروزفلت في أمريكا.. فكانت هذه السيدة لا تمرر جلسة إلا و أذاعت فيها أنها كانت مدعوة لدى العائلة الفلانية، فتقول مثلاً:" أوه تذكرت .. على واجب مجاملة.. لأن بن شوشو اتجوز .. إيه رأيكم؟ أعتقد جنيه ذهب يلوحه.. و احطهوله في بونبونيار كريستال .. لا لأ .. الولد مش هيصدق نفسه!!"

بعثة إلى مجتمع الداخلية

كما أنها أجادت - يا دانة - فن الاتصال بالمعارف .. فتتصل بمعارفها و تزعم عدم قدرتها على إتمام المحادثة لأنها داعية على العشاء الوزير الفلاني و حرمه و السفير العلاني و أسرته .. فتمكنت مما أرادت و هو رسم صورة مزيفة لنفسها لتوحي للجميع أنها تضع السلطة في جيب معطفها ..
و بالإضافة لإستغلال الناس .. تمتلك هذه السيدة قدرة و مهارة عالية في إستغلال كل موقف و تحويله لصالحها.
وأتذكر- يا دانة- أنها أول مرة قابلت فيها " بابي ياسر " حدثته عن تربيتها في المدرسة الداخلية، حيث إبتعثها والدها لتتعلم كيفية الاعتماد على الذات، و جلست أنصت إليها بانبهار سلبي كبير و أنا أراها و هي تصنع من الفسيخ شربات.. و أتعجب كيف تتمكن من فرض أكاذيبها على الحضور الذين يعلمون ماضيها كونها سليلة أسرة مفككة لأابوين منفصلين - و لا يعيبها ذلك- أراد والدها الزواج من أخرى .. و التي اشترطت عليه أن تتزوجه " مشفي" دون شغت أبناؤه.. ما اضطره لترحيل أو لنقل لإبتعاث إبنتيه إلى أحدى المدارس الداخلية.. التي لاقت فيها هذه السيدة ما تلاقيه معظم الفتيات أبناء الأسر المفككة.. بعدما يستخدم فيها الأب حقه في الزواج بأخرى والإنجاب من أخرى و لا يفكر وقتها أو بعدها في واجبه حيال ضرورة قيامه بدور في تطبيع علاقة زوجته بأبنائه أو الأشقاء بالأخوات- علما بأن حتى الأنبياء فشلوا في تطبيع العلاقة بين أبناؤهم.. أخوة و أشقاء و أستشهد بأخوة يوسف على سبيل المثال-
وعاشت هذه السيدة حياة باقي المقيمات في مجتمع الداخلية والتي هي أشبه بالإصلاحية، فإهمال الأهل حقيقة واقعة لهذه الفئة، ناهيك عن شتى مشاكل المدارس الداخلية سواء مشاكل نفسية أو سرقات أو تعلم أشياء سابقة لأوانها وصولا لمشاكل ....

الإستغلال فنون

أتذكر كيف كانت تستغل هذه السيدة موت أحد أقاربها التي قاطعتهم منذ أكثر من عشرين عام لتتمكن من أخذ استئذان نصف يوم لأداء واجب العزاء! و الغريب حقاً، أنها كانت تجاهر بأنها تمكنت من استغفال مديرها..
علما بأنها هي من أشاعت أن مديرها هذا، ما هو إلا عميل يتجسس لأحد الدول الأجنبية.. و كانت تتباهي أنه يستشيرها و يسألها عن اتجاهات الناس و مواقفهم وعن درجة غضبهم عقب غزو صدام للكويت و كانت تجيبه بكل ما يريد و تختم حديثها ب: ياس سير!!!

لا يغرنك تعويج العنق و لباس الصوف والثوب الخلق
و خشوع المرء في ظهره و هو في الخلوة نتن حنق

أما إستغلالها لتطلع زوجها في الحصول علي منصب وزير، فقد وجدت لها حلاً جهبذياً ، فقد اتصلت بجميع معارفها مدعية أن الوزارة قد عرضت على زوجها لكنه رفض بإباء و شمم.. لأنه زاهد في أي منصب سياسي كونه يريد أن ينأي بنفسه عن ألاعيب السياسة .. القذرة !
أما هي فقد كانت تعمل سكرتيرة في مؤسسة أجنبية موهمة الجميع أنها حاصلة على الدكتوراه و الجميع خارج هذه المؤسسة ينادونها بالست الدكتورة، رغم أنها لم تكن قد أكملت تعليمها الإعدادي - و لا يعيبها ذلك- إلا بعد عشر سنوات من تخرج أصغر أبنائها.
و هذا الأخير لم يسلم أيضا من إستغلالها، فقد غرست فيه أنها هي التي توسطت له للحصول على عقد عمل و كان أيامها ب 7 ألاف جنيه مصري، و أعلنت للجميع أنها قد أنذرته بأنه لو لم يشارك في مصروف البيت فستتوسط لدى مديره لرفده من منصبه.. و بالفعل قام بدفع الإتاوة شهريا.. فتمكنت من تجديد بيتها و تبيضه و تجديد الأثاث.. "و كله لكم يا أولاد في الأخر .. هو في حد بياخد حاجة معه في القبر.. ده الكفن ما لوش جيوب !!"
وإذا كانت ترى لها حقا في استنزاف إبنها على هذا النحو فلك أن تتخيلي- يا دانة - ماذا فعلت في أحدى زوجات إبنيها.. و كيف سعت لتطليقها و كيف إستولت على أثاث بيتها و ذهبها و أبناؤها.. و الكل صامت أو لنقل رافض بصمت.." و ما لوش لازمة يا سوسو .. و كبري دماغك يا سو .. و ليه العصبية دي.. صحتك .. دا أنت عند الضغط و قولونك عصبي .. الطيب أحسن.. مهما كان .. هي أم أحفادك.. و بلاش يا ستي موضوع القضية و تشويه سمعة البنت .. أنت عارفة .. هي من نفسها مش هتقدر تصرف عليهم و هترجعهم" !!

شهقة إعجاب " بالأملة "

نموذج أخر لقدرتها الجهنمية في إستغلال كل موقف و أي موقف، فقد تزوجت هذه السيدة من رجل صاحبته في الإقامة في إحدى مدن الأقاليم لفترة تبعاً لظروف عمله ثم صاحبته بعدها في أحدي الدول الغربية لاستكمال دراسته العليا، و كانت تروي لكل من تقابله كيف كان أقاربها و معارفها ينبهرون بها و بتضحياتها عند زيارتها و كيف كانوا يشيدون بتواضعها وبكيفية تعايشها في مدن الأقاليم في ظروف حياة قاسية وصعبة .. لم تعتدها.. في شقة صغيرة غير مؤهلة، وحينما سافرت للخارج روجت لصورتها كمكافحة، عصامية، بدأت الُسلم من أوله .. مدعية أن الجميع كانوا يتعجبون كيف إستطاعت أن تتأقلم في مختلف الظروف في بيت يخلو من أشياء ضرورية للغاية، وكانت الدكتورة المزعومة حريصة على أن تروي أي إشادة لها على لسان الناس، فالناس هم من إنبهروا بها وبقدرتها على الصبر و الناس هم من أشادوا بتأقلمها في بيئات مختلفة سواء في الأقاليم أو في الغرب .. بينما هي لم تقل حرف واحد عن نفسها.. فلا يشكر في نفسه إلا الشيطان الرجيم و العياذ بالله.

العفن الإنساني!

الشاهد- يا دانة - أن السيدة المحترمة حينما كانت تزور أبنائها و زوجاتهم أثناء سفرهم للعمل بالخارج، كانت ما أن تدخل عليهم حتى تشهق شهقة إعجاب" بالأملة "التي يعيشون فيها رغم إقامتهم في شقق شديدة التواضع كونهم مغتربين يبدءون حياتهم من الصفر و كانت تقول لهم
:" الله .. لا لا لا .. بيتكم فخم جدا.. ما شاء الله.. مش ناقصكم أي حاجة.. يا بختكم .. إش إِش إش.. دي حاجة عظيمة جدا.. ده أنتم بتصرفوا كتير على الأكل و مدلعين نفسكم خالص.. فين أيام ما كنت زمان بأشقى و اأتعب .. أنا عشت سنين على الكوتيتج (الجبن القريش).."
مع أن والدها قد شرا لها شقة راقية و جعلها تقيم في مستوى كبير .. بينما قام زوجها بإدخال الأبناء أغلى المدارس و الجامعات.. وعاشت في أفضل أو من أفضل المستويات المادية و الإجتماعية مع زوجها الأكاديمي و سافرت للسياحة في الكثير من دول الأجنبية و إذا ما إحتاجت علاج أو عمليات جراحية.. فكان زوجها يصر على أن تجري لها خارج مصر .. و لم تركب يوما المواصلات العامة كما استخدمها أبناؤها و زوجاتهم.. لكنها كانت تخشى أن تمدح أبناؤها أو زوجاتهم أو الإشادة بصبرهم على قسوة الحياة في بدايتها " إستخسارا في تقدير زوجات ابنيها بكلمات مشجعة مخافة أن " يتمرعوا" أو خشية أن يزداد احترام و إرتباط أبنائها بزوجاتهم .. فلم تُسمعهم يوماً:" ربنا يكون في عونكم .. كلنا بدأنا على هذا النحو .. لكن بالصبر كل شيء سيأتي.. و سيزداد ترابطكم و تقديركم لبعض" بل كانت تحفز زوجة ابنها - والتي كانت تتباهي أن عمها كان وزير سابق- و تقول لها
: لازم تساعدي جوزك و تشتغلي.
: طب يا تانت أترك الأولاد فين؟
: بسيطة .. و فيها إيه لما تشتغلي "بيبي سيتر" في البيت عندك ..على فكرة بيدفعوا بالساعة..
و ممكن تحصلي 60 دولار في اليوم على الرأس!
و بالفعل عملت زوجة ابنها كجليسة أطفال- و لا عيب في ذلك- و لكن كل العيب أنها كانت تعايرها لاحقا بوظيفتها الوضيعة "و أنت نسيت نفسك و لا إيه؟!" و تذيع في مصر أن زوجة ابنها اضطرت للعمل كجليسة أطفال لتوضع من شانها في المجتمع المصري الذي لا ينظر لهذه المهنة بذات الطريقة التي يتعاطى بها الغرب.. و لتظهر كيف تمكنت من وضع أنفها و أنف أهلها في التراب!

تعرفي يا دانة :

أنا لا أتعجب من نموذج هذه السيدة و الذي يمثل مثال صارخ للانتهازية و العفن الإنساني، و لكن أندهش أكثر لكثرته و لسطوته و لقدرته التسلطية على الناس، فأنا لم يستوقفن فقط نعتها أختها " بالبيضة الممششة" و تفاخرها بإجبارها زوجة إبنها على العمل كجليسة أطفال و لكن كنت أسخط من صمت السامعين و معاملة الظلمة كما يعامل الكرام!!

الشياطين الخرس

ستقابلين - يا دانة - عدد ليس بقليل في هذه الدنيا من نوعية - الشياطين الخرس- مضفين على قرار الصمت سمت الحكمة ونعت التأني و كثيرا ما ستسمعين في حياتك - يا دانة -أصوات ستنادي بضرورة عدم الاستعجال في اتخاذ القرارات و معاداة الناس.

ليت شعري.. هيهات.. هيهات
شعري أبكم
هيهات.. هيهات..
جمهوري أصم
هيهات.. هيهات..
شعبي يرى يشاهد الدم
ثم ينام يحلم و لا يهتم
ليت شعري يجدي يصيب أو يسهم
(داليا الحديدي)

" خالتك ساكسونيا "

وإذا كان المثل يقول "حدث و لا حرج " إلا أني أحدثك و أنا كلي حرج ، فإذا كان مصطلح "البيضة الممششة" قد مرره الجالسون كما يمرر أعضاء مجلس الأمن قرارات الفيتو الأمريكي بكل ما يخص فلسطين و العراق و الدول الضعيفة، فماذا أقول عن مصطلح " خالتك ساكسونيا"؟!

ففي أحد المرات حكت لنا هذه السيدة على طرفة لتضحك السامعين، فسعيها للإستظراف جعلها تقص على الحضور أن أحد أصدقاء أبنائها قد زارهم يوماً، فلمح خالة الإبن و هي تخرج من غرفتها لتذهب للحمام، فقال لصديقه" هي خالتك ساكسونيا دي ظروفها إيه؟ و إنفجر الحضور بالضحك على " الخالة ساكسونيا " .. تخيلي!!
تذكرت هذه الواقعة- يا دانتي- حينما قرأت مذكرات يحي حقي .. فقد ذكر كيف تلقى من والدته صفعة قوية على وجهه حينما وصف سيدة سمينة بوصف غير لائق، ولم يستح من ذكر تحذير والدته بان سوء خلقه مع الناس سيجعله يسمع يوما ما تعليق قاس يتعلق بقصر قامته و أن أحدهم قد يقول له بأنه لا ينفع إلا أن يكون لاعب سيرك يمشي على الحبل في فقرة المهرج!!

كم أود أن تدركين الفرق بين أم صمتت على خطأ ابنها و مررته ضاحكة أو بررته أو سكنت من قسوته مدعية أي إدعاء حكيم أو أي مسمى عقيم "دي ساعة غضب.. دي زلة لسان".. و أم وقفت وقفة بل استوقفت إبنها و حذرته و نبهته و هددته و ربته و أخرجت للمجتمع أديب بكل معنى الأدب !

ليت شعري كالأمس مجد و فخار و إزدهار
عار عليه اليوم ضعف و إنكسار عار على عار
ليت شعري كما كان لغة أقوى الأديان..
إلا أنه الآن .. لغة ضعاف الإيمان
ينطق على استحياء .. في بعض الأحيان
صبراً، مهلاً، الحكمة الحكمة يا أبناء
ليت شعري يعلوا صوت الحكماء...
إلا أنه لاشيء.. يعلو على صوت ..الحكماء
(داليا الحديدي)

فينوس = الجمال الناقص

يبقى - يا دانة - أن أوضح لك انه كان لهذه " الخالة سكسونيا " أسم جميل فهي لم تولد " سكسونيا " و شكل أجمل فهي سيدة جميلة و بحق.. و لكنه جمال صامت لأن الشخصية الثرية هي التي تضفي الحياة و البريق على جمال المظهر.. و لكنه جمال ناقص ..
و لكن ألم ُينحت تمثال فينوس مقطوع الكتف للتدليل على أن كل جمال، لابد أن ينقصه شيء لأن الكمال و الجمال لله وحده؟!
ألم يرزق سيدنا يوسف عليه السلام شطر الجمال و نقصه الشطر الآخر و قد اعتبر الأمر ممدوحة في حقه .. لا نقيصة!

الشاهد - يا دانة - أن الخالة سكسونيا كانت لديها يوما ما عائلة جميلة و أم رائعة الجمال .. ربما كانت في يوم ما " تحكي لها أجمل حكاية عن قصة حب و قلبين" و يقينا أقيمت لها حفلة عقيقة أو سبوع كبيرة احتفالاً بقدومها للحياة .. و مؤكد أن جميع أصدقاء العائلة و معارفهم جاءوا مباركين و مقدمين الهدايا.. و لا أشك أنها حظيت في طفولتها بأب خاف عليها من الحسد وعيون الناس عقب إقامته حفلة عيد ميلادها .. كما كانت لها أخت أكبر تلعب معها دون حساب و دون خوف من المستقبل ..
و لكن يبدوا أن هناك من يفرق بين إبن ينتظره والده ليكون سند له في المستقبل و بين إبن يمثل عبئ ..و ينتظر أن يبحث له والده عن سند في المستقبل.. و شتان الفارق بين الإبنين!!

كما أؤكد لك يا - مادونا - أن "ساكسونيا " لم تكن لديها أي إعاقة ذهنية، بل كانت إعاقتها تنحصر في ضعف السمع الشديد منذ الولادة، أدى إلى تلعثم في النطق مما سبب خجل إجتماعي بسيط في البداية، و لأن الأب و الأم قد إنفصلا، و لم يتحمل والد هذه البنت سوى نفقات المدرسة الداخلية و بعض الزيارات- علما بأن هذه الحالات تحتاج لجهد كبير للتأهيل للحياة داخل المجتمع- لكن الرجل اضطر للتفرغ لحياته الجديدة مع زوجته الجديدة وأولاده الأحدث و تفرغ أيضا للعمل و مسؤولياته الجديدة، لذا فكان من الطبيعي أن تتدهور حياة الابنة الجميلة بالكامل حتى" مششوها "يا دانة!
حتى حولوها "لسكسونيا " كما أصبح يحلو للأبناء مناداة خالتهم بهذا الإسم .. فتضحك العائلة جمعاء بصوت عال و بقهقهة مدوية.

أب بشهادة الميلاد .." أم كليشنكان" و أخوة يوسف!

هل تتخيلي - يا دانتي- أن حالة إنسانية لم تكن مصابة سوى بضعف سمعي أدي لصعوبة و تلعثم في النطق، تبعه خجل اجتماعي، تنهار على هذا النحو؟!
من الذي جعلها "سكسونيا" ؟!
من الذي حولها ل"سكسونيا" ؟!
من يا دانا ؟ من؟!
يا سبحان الله يا دانة، أنا أتعجب لأني أعلم أن حالات أضعف و أقل من هذه مئات المرات إلا أنها تلقت رعاية و عناية وعاشت أوضاع أفضل بكثير بفضل الله الذي سخر لهم أباء و أمهات و أخوان على قدر من المسؤولية و المروءة و الإنسانية، بل أتذكر إني شاهدت حالة الدكتورة زينب و التي عرضها - زمان- برنامج " فرسان الإرادة" و الذي أشاد بجهد أم الدكتورة زينب التي تمكنت من مساعدة إبنتها حتى حصلت على الدكتوراه، رغم أن ملامح الابنة غير طبيعية و لا أريد أن أوضح أكثر من ذلك!!
و هنا - يا دانة - تيقنت أن الأمر لا يتعلق بخطورة مرض أو صعوبة حالة، بل بظروف أخرى، فهل هناك أب حقيقي و أم معتبرة و أخوة على قدر من الإنسانية.. أم هناك أب بشهادة الميلاد و" أم كل شيئ كان" و "أخ .. سوري" أو أخوة يوسف!

أذكر ما قامت به الدكتورة الإفتراضية في أحد الأيام و نحن حضور و قالت بعد أن خبطت يدها على رأسها :" اوه.. لقد نسيت المرور على محل الكباب .. فسكسونيا "مغلباني" لأنها لا تأكل من اللحوم سوى الكباب و الكفتة، فخرجنا معها لشراء الكباب" للبيضة الممششة "وسط دهشة و لنقل ريبة الجميع، فأخرجت بزهو أربعون جنيها - ثمن كيلو الكباب وقتها- لتثبت للحضور أنها سخية .. وفية مع أختها و عدنا إلي بيتها.. و علمت من الخادمة أن كيلو الكباب هذا يوضع في البراد لمدة شهر حتى يتقدد، حيث لا تأكل أختها سوى نصف أصبع كفتة في اليوم لا أكثر و لا اقل مع معلقة أرز و ثمرة فاكهة رخيصة.. و تذهب الخادمة لتدق على الباب .. ثم تضع الصينية على الأرض.. علما بأن باب غرفة الأخت الصغرى له مفتاح يتم إغلاقه من خارج الغرفة في حالة وجود ضيوف مهمين.
أيضا و لأن هناك حمامين في البيت فتشارك الخالة سكسونيا الخادمة في إستخدام الحمام الصغير بينما الأب و الأم و الأولاد يتشاركون في الكبير!
و نظرا لأن الدكتورة المزعومة لاحظت أن" سكسونيا " تفرط في إستخدام الصابون، فوجدت أن الحل الأمثل لهذا الإسراف هو وضع صابون غسيل صحون مربع الشكل لا رائحة له لاستخدامات "ساكسونيا "والخادمة.. بينما تقوم هي والعائلة باستخدام صابون التموين و عند وجود الضيوف، يظهر صابون" فا".." لوكس" أو "دايل" في الحمامات.

دانة :

قبل أن تدخل "ساكسونيا " سجنها أو قبرها الذي ماتت فيه.. كانت قد دخلت في يوم من الأيام هي و أختها الدكتورة المزعومة للحياة من ذات المدخل و استقرتا في ذات الرحم و خرجتا من ذات البطن و ارتويتا من ذات الضرع و عاشتا - يا دانتي- في ذات البيت كأميرتين معززتين مكرمتين، إلى أن شاءت الظروف أن ينفصل الأب عن الأم، فاستخدم الأب حقه في الزواج بأخرى، و لأن عدد من الأباء لا يدركون سوى مسؤوليتهم التمولية تجاه أبناؤهم، فقد إكتفى من واجبات الأبوة بوضعهما في واحدة من أفضل المدارس الداخلية ، ثم مضت السنون و تباعد البيض عن الرحم و أهمل الراعي الرعية، فكانت النتيجة - يا دانة- مدمرة بل و ساحقة.

لازلت أذكر يا دانة أول مرة سمعت فيها القسم ب" تربة بابا " و الذي جاء على لسان هذه السيدة الإنتهازية التي أطلقت على أختها لقب " البيضة الممششة" و عاملتها على أنها سم قاتل!
وأتساءل مع نفسي ماذا ستقول " للبابا " الذي تقسم بتربته إذا قابلته على الصراط أجلا .. و كيف ستقف بين يدي رب البابا ؟!
فأين مشاعر الأخوة أو أين المشاعر الآدمية؟ رغم أنهما قابعتان في ذات البيت، والأخت الصغرى ضعيفة و مسكينة و لا حول لها و لا قوة!

قيل لي - يا دانة- أن الخالة سكسونيا هذه كانت فتاة جميلة .. رشيقة .. بيضاء لا يعكر صفو هذا الجمال سوى ضعف السمع و التلعثم، فسألت عن سبب تدهورها، فقيل أنه عقب وفاة الأب، لم تشعر الأخت بأي واجب تجاه أختها سوى الواجب المادي.. وكون هذه الأخت تجمع بين صفتي الانتهازية والبخل، فكان يثير ضيقها أن تذهب أختها للمصفف الشعر"الكوافير"- مصاريف برضه - و كان يجن جنونها إذا ما طلبت أختها ملابس جديدة.. ناهيك عن عدم تحملها لمصروفات التاكسيات إذا ما أرادت الذهاب لأحد المعارف..أما عندما شرعت في وضع طلاء الأظافر، فقد أثار لديها هاجس أن تتعرف البنت على شخص ما " بياع سبارس- بقايا السجائر- على حد تعبيرها" يضحك عليها و يتزوجها.. و بالطبع من رابع المستحيلات أن توافق "البيضة الزفرة" أن يؤول ميراث أختها" البيضة الممششة" لإنسان "هلفوت" استغلالي .. فيكفيها أن والدها قد ضحكت عليه سيدة " ألعبان" على حد تعبيرها أيضاً- تزوجته و أنجبت منه الولد .. ما يعني أن نصيبها في ميراث والدها قد تقلص للغاية وهو ما أدي لإصابتها بالقولون العصبي !
فكان قرار الإغلاق أو السجن الانفرادي للخالة "ساكسونيا ".. الذي عاشت فيه نحو عشرون عام أو يزيد إلى أن توفاها الله.
و القرار على قسوته، إلا أن أحدا - يا دانة- و حتى يومنا هذا لا يعرف من الذي أصدره، هل الأخت الكبرى هي التي سجنت أختها في غرفة النوم طوال هذه المدة ؟أم أن البيضة الممششة التي عانت من عنت أختها هي التي قررت أن تنعزل عن هذا العالم الذي خذلها بمن فيه؟!

لكن المؤكد أنه منذ مطلع الثمانيات و حتى وفاة الأخت الصغرى منذ عامين تقريبا، لم تخرج سكسونيا من غرفتها الضيقة.. لم تخرج إلا للحمام أو للشرفة أحياناً، فالأخت التي كانت تخرج و تزور و تروح و تأتي و تذهب للكوافير و تقابل الناس .. بدأت تنزوي و تصمت ثم ألقت بالسماعات ثم شرعت في إغلاق الباب عليها فترات طويلة - علماً بأن غرفتها خالية من أي أجهزة راديو أو تلفاز أو هاتف أو حتى مروحة – فبدأت البيضة في التمشيش!

فليست تحيي الشمس عند شروقها و ليست تحيي الشمس حين تغيب
و من عصبت عيناه فالوقت كله لديه و إن لا الصبح غروب
إذا سقيت زادت ذبولا كأنما يرش عليها في المياه لهيب
أيا زهرة الوادي الكئيبة إنني حزين(ة) لما صرت إليه كئيب
و أكثر خوفي أن تظني بني الورى سواء وهم مثل النبات ضروب
أسرك يا أخت الرياحين مفجع و موتك يا بنت الربيع رهيب
(أبو ماضي) بتصرف

و اتجهت "ساكسونيا " للصمت خاصة حينما وصل إلى سمعها الضعيف تعليقات أبناء أختها أن " صوتها محشرج و عامل ذي صوت الرجالة الخناشير" فآثرت السكون.. و بعد فترة ألقت بالسماعات فلم تعد بحاجة لهم، فلقد شعرت أن أحداً لا يريد السماع لها .. فقررت المعاملة بالمثل و كابرت .. و اختارت أو ربما أجبرت على اختيار العزلة التامة والبعد عن جحيم الحياة و زهدت في تناول الطعام حتى هزلت و أصبح وزنها لا يتعدي في أغلب الظن 39 كيلو مع طول لا يتجاوز بأي شكل 160 سم تقريبا.

و إذا رآها أي إنسان، لم يكن ليقول أن هذه هي ذاتها الفتاة الجميلة التي كانت تملأ بيت والدها بهجة و فرح و براءة. . فلا شك أنه سيعتقد أنه أمام سيدة تستحق و بجدارة لقب " الخالة سكسونيا"!!! فقد صارت أشبه بالمجانين، لا تصفف شعرها مطلقا.. تمشي مشية مرتعشة..رثة الثياب، ولم تعد تطلب الجديد منها .. و قد استراحت الأخت الزفرة على هذا النحو و أصبحت تعطيها مما تلفظه خزانتها.. حتى الأساور الذهبية التي كانت تضعها فتحدث دوي خفيف .. اختفت تماما من معصمها..

عـزّت الكلمة عليهم كأنها شي.. مـو بيديهم
وكـل ما ضاقت علينا ..عذبـونا الله يهديهم

مـن زمن والقلب صابر.. ينتظر لو حلم عابـر
ليتنا بس مـا شـكينا.. ليت ظـلينا نكابـر
(صدى الحرمان)

و قد تمكنت البيضة الزفرة من الترويج لنفسها بأنها ليست من النوع الذي يستغل أختها المريضة في المطبخ أو عمل أي شيء في البيت بدعوى أنها لن تستغل أختها كخادمة .. مدعية أنها أتت بالخادمة خصيصا لتحضر لها كل ما تحتاج ..

و بين الحقيقة و بين ادعاء الدكتورة المزعومة بون شاسع .. فقد منعتها من استخدام المطبخ كليا للسيطرة تماما على أي شيء في البيت فهي من يصدر الأوامر للخادمة بنوعية الأكل الذي سيشترى بعد أن توصيها بضرورة الفصال أيا كان الثمن.. و هي التي تحدد عدد أكواب الأرز التي ستطبخ و هي التي تراقب دولاب الخزين في المطبخ لتعرف الصادر منه و الوارد لمنع الإسراف .. و أخيرا هي الأخت الحنون التي لا تستغل أختها في عمل أي شيء في المطبخ .. بل أن الطعام يصلها حتى أسفل باب غرفتها.

استبيحت سكسونيا حتى ماتت كما فلسطين حتى ضاعت

و حتى قبل السجن الانفرادي - يا دانة - و قبل الثمانيات، لم تر الخالة "سكسوني"ا في أي فرح أو مأتم أو أي مناسبة اجتماعية، و بالطبع كانت أختها الكبرى تقيم أربع احتفالات سنوية بمناسبة أعياد ميلاد أفراد العائلة تدعوا فيها جميع المعارف، و لم ُتسأل لماذا لم تحتفل يوما بعيد ميلاد سكسونيا؟! " اهو ده اللي ناقص" تحتفل بسكسونيا!! منذ متى يستخدم "البيض الممشش" في صنع الحلويات وإقامة الحفلات؟! و يقينا لم تحضر سكسونيا فرح أي من أبناء أختها الكبرى لأنها لن تشرفها أمام المدعوين من صفوة الأتاربة و أباظياتهم ! و ثقي يا- دانة - أن "ساكسونيا " ليس لها صورة واحدة لها تجمعها مع هذه الأسرة التي عاشت معها ما يزيد على عشرين عاماَ!!

و لا أحد يسأل، بل الكل مقدر الظروف !! فقد استبيحت سكسونيا حتى ماتت.. كما استبيحت فلسطين حتى ضاعت! و كم أود لو شاهدت يوم القيامة لقاء الأخت الكبرى بوالدها، و كم أحمد ربي أني عندما التقيت بهما كنت لازلت صغيرة مرفوع عني القلم حتى لا تغمرني اللعنة.

هل كانت تخشى الأخت الكبرى أن تتزوج أختها الصغرى، فترزق بزوج و أبناء يرثوها؟ لا أشك في ذلك .. وإذا كان بعض الظن إثم .. فإن هذا معناه أن البعض الأخر من الظن و القائم على شواهد .. ليس بإثم ..

حظر التجول في الحياة

فقد تمكنت "البيضة الزفرة" من إحكام السيطرة على نصيب "البيضة الممششة" في الميراث سواء أرض أو مصاغ أو عقار سيطرة كاملة .. و لم يحتاج الأمر منها رفع دعوى حجر .. بل بصمتها على كل الأوراق المطلوبة من توكيل و سواه.. و أحكمت السيطرة عليها هي أيضا و فرضت عليها حظر التجول في الحياة.. و لم تعطها الحق سوى في المبيت في غرفة مترين في مترين و حق تناول فتات الطعام و رث الثياب.

بصيص أمل .. مفقود

ترى - يا دانة- لو كان لدى" الخالة سكسونيا" بصيص أمل في إمكانية أن تجد نصرة من أي مخلوق على وجه البسيطة ..أما كانت هجرت خيار العزلة و الانزواء و السجن الانفرادي؟
لكن حتى بصيص الأمل كان مفقوداً.
الم تهدد بالصمت فترة بل سنوات؟
الم تنزوي و تزهد في الطعام و تأكدت من أن أحدا لا يكترث ؟
الم تلقي بالسماعات و لم تجد من يدعوها لمعاودة استخدامها؟ لأن أحدا لا يعنيه محادثتها أو سماعها فما بالك بتحمل مسؤولية الدفاع عنها..
ألم تتأكد - فعلاً -أن أحداً لا يريد التواصل معها ؟
ألم تنظر غضباً و شظراً لكل من تقابله و لم تر يوما ضاحكة أو مبتسمة منذ فترة الحبس الانفرادي و حتى ماتت؟! و لم يأت أحد ليصالح أو يداوي أو يعالج أو يحب .. إذن فلن تتسول المحبة أو الاحتواء من أي كائن كان!!

لا تطلبن محبة من جاهل .. المرء ليس يحب حتى يفهما

(أبو ماضي)

ما من مكترث .. فلا أخ أنقذها و لا شقيقة رحمتها والأم الرحيمة ماتت و تركتها.. و الباقي بين من هو مشغول في متابعة مباريات المنتخب ومن هو مهموم بالبحث عن فرصة عمل في الداخل أو الخارج و من هي منشغلة بإقامة الولائم تستضيف فيها نخب المجتمع .. و من هو مهموم بالغلاء و الدروس الخصوصية.

تدرين الكل .. يجهلهم يجرحوني
وكل ما أقرب .. من مشاعرهم
بقسوة يبعدوني و يبيعوني
من أعاتب ؟؟ وليش أعاتب؟؟
وأنا أدرى
مالي في الدنيا
سوا قلبك .. مكان
أمي .. أمى
الله يرحمك.. كنت معي..
كنت معي .. زمان
(صدى الحرمان)

طعام .. شراب و مأوى

حتى لو لم تدرك ذلك بعقلها الصغير.. حتى لو لم تكن تنطق هذه الأبيات بلسانها الثقيل .. إلا أنها - يقينا - بشر يشعر، و قد مات والدها ووالدتها.. و راح كل نصير، علما بأن الأب من الأساس لم ينصر إبنته و تركها و لم يعرف أي مسؤولية تجاهها سوى توفير المادة.. فلم يغرس في الأخت القوية واجب حماية أختها الضعيفة.. فكيف نتجنى على الأخت الكبرى؟ الم توفر لها المأوى و الطعام و الشراب؟!

دانة :

يقينا لم تشعر "سكسونيا " بإعاقة سمعية فحسب أو إعاقة في النطق فحسب، بل المجتمع كله أعاق حقها في الحياة وفي العيش الكريم و لم يفكر إنسان في تعليمها مهارة تتكسب منها أو هواية تنمي قدراتها.. ناهيك عن عجزها من الأساس في التجرؤ في طرح حلم الزواج .. لم يسع أحد لتطويرها أو تنمية أي مهارة لديها .. حتى أن بقايا السمع لديها تدهورت بعدما اقتصر حقها في الحياة على حقوق الحيوانات.." طعام .. شراب و مأوى" لم يبال أحد بالسؤال عنها إلا كسؤال المراكبية.

: كيف أحوال أختك؟ بخير .. ربنا يطمنك .. خللي بالك منها.. حطيها في عينك .. أه.. تي أمانة .. الله المستعان..
و الضمير مركون و في رحلة استجمام سرمدية.. فكانت النهاية متوقعة.. فقد تم التعامل معها على أنها عبئ ثقيل.. كريه، يرجى أن ينزاح في القريب و قد كان..علماً بأنها افتقدت أكثر ما كانت في حاجة له .. فقد كانت في أمس الحاجة للحب ممن هم مفترض أن تتعكز عليهم ..من أقاربها .. أن يتم سماعها بحب .. تمنح الطعام و الشراب بحب .. تصاحب من الأهل بحب .. تعالج بحب.. تهادى بحب . . وشتان بين الواجب والحب!

و كم أود – يا دانتي- لو وعيتي قصيدة " خيانة عكاز" للشاعرة القطرية المعاقة التي رحلت منذ بضعة أعوام" صدى الحرمان" فهي أقدر من عبر عن كل من عاني بأي إعاقة :

أبـــد لا تحــزني" ُيمـــه" إذا خـــانتني رجــليني ..
و إذا كلٍٍ شــكا همّه و أنا همـي بقى في
و إذا خنجــر صداقتهن غرس حده وســـط قلبي ..
و إذا عكازتي خافت من أنها تسند إيديني

ولا تبكــين يا "ُيمــــه" إذا عمــــري غدى دفـتر ..
وكلٍ يمــــزع أوراقـــــه ولا ظــنه يكـــفيني
أبد لا يجزع إحساسك لا شفتي البعض يجرحني...
و إذا ضاع الوفا فيهن وضاعت معهن سنيني

أيعالج الجاني المجني عليه؟

و لكن تعرفي - يا دانة- لم تكن البيضة الزفرة شر مطلق، بل كنت أراها تصلي ..الفرض بنوافله.. صحيح من الممكن أن تحصل على أحد جوائز" الجنيس ريكوردز" في الصلاة السريعة، إلا أنها كانت تسقط عنها الفريضة، و كان لها ورد خاص بها ..و صحيح كانت تجاهر بكل قرش صدقة كان أو زكاة تصرفه في وجه الخير و لكن كنت أتلمس لها أي محمدة.. كون البخيل يشعر بألم بالغ حالة الإنفاق، فكنت أقدر لها إستمرارها في منح الشهرية التي تخصصها لكفالة أحد الأيتام.. كما علمت أنها أدت فريضة الحج بمصاحبة زوجها و عادت و قد إرتدت الحجاب .. إلا أن الحج لم يمنعها من تبادل القبلات الودية أو "الفرندشيب كيس" مع أصدقاء زوجها الأجانب و أمامه و برضاه!

وكنت في حداثة سني .. أرى إزدواجية في هذا الأمر، لكن شيئا فشيئا أدركت أن الأمر لا يتعلق بإزدواجية في الشخصية لأنه لا يوجد شر كامل بصورته التقليدية.. كلنا نخطئ و نصيب .. و لسوف تندهشين - يا دانتي- أننا -أيضا- كلنا نجرم و نثيب!

*ألم يكن لصدام حسين أياد بيضاء على عشرات الحالات المرضية التي أمر بعلاجها على حسابه الخاص؟!
*ألم نسمع عن تبني كثير من الحكام الديكتاتورين في الدول المسحوقة لحالات مرضية يرسلونها للعلاج في الخارج على نفقة الدولة أو على نفقتهم الشخصية ؟رغم أن سجون هؤلاء الزعماء عامرة بالمعتقلين و المظلومين معاقين و غير معاقين ؟!
* ألم نشاهد موائد الرحمن المخصصة للفقراء والمساكين و التي تنفق عليها راقصات فضليات؟
*ألم نقرأ عن خبر قيام عارضات الأزياء في الولايات المتحدة بالتعري (عري تام) والتبرع بقيمة صورهن العارية المنشورة في المجلات لصالح علاج مرضى الإيدز؟
*ألم نندهش من تخصيص كبار رجال أعمال مبالغ مهولة للجمعيات الخيرية ثم نكتشف لاحقاً أنهم من كبار رجال تجارة مخدرات؟
بل أنني حينما قرأت مؤخرا كتاب " العطاء" أو "جيبفينج " لبيل كلينتون " ذهلت من الأرقام الفلكية التي تبرع بها اليهود والصهاينة والملحدين و البوذيين والسيخ للأعمال الخيرية- أرقام بالمليارات- و تعجبت أكثر أنه لم يتم ذكر سوى إسم مسلما واحداً في هذا الكتاب!
فأدركت أن العطاء إما أن يكون غريزة إنسانية مجبر عليها الإنسان كغريزة الطعام و الشراب، إلا انه يمنحها لمن يحب .. لا لمن يستحق.. و يمنعها عمن يكره و لو كان في أمس الحاجة إليها..
و إما أن كل إنسان مهما أجرم .. يريد أن يدهش الناس و يقول لهم: لست كما تعتقدون، و أستطيع أن أذهلكم فلن تفهموني أبدا.. فأنا أمنع .. وأمنعح، و الذكي من يتبعني فيستفيد من منحي و الخاسر من يعارضني فأعاقبه بمنعي .. أو هكذا أعتقد يا دانا.

و أخيراً إستغلت البيضة الزفرة وفاة البيضة الممششة و تمكنت من الحصول على أجازة من العمل كونها تعيش حالتي حداد و حزن عميقتين بسبب فقدها لغاليتها الممششة!

و المضحك يا ابنتي أن " البيضة الزفرة " قد نشرت نعي لأختها " البيضة الممششة " ثمنه لا يقل عن عشرة ألاف جنيه للحفاظ على إسم العائلة على رأس عمود في الجرائد!

طبعا هذا الرقم الفلكي لم تره "سكسونيا" في حياتها البتة و لم تسمع عنه.. بل لم تكن تجرؤ على المطالبة بسماعات متطورة.. حتى أني في أحد زياراتي لألمانيا كنت أقيم في احد البنايات بشارع ناصيته تطل على محل متخصص في صناعة السماعات الطبية للصم.. وعزمت على إخبار "البيضة الزفرة " بالتقدم الموجود في عالم تطوير السماعات لضعاف السمع و لكني تراجعت بعد أن فكرت أنه هيهات أن يفكر الجاني في علاج المجني عليه.

ثم هل الدكتورة المزعومة بخبرتها الواسعة لا تعلم بوجود سماعات متطورة أو عمليات جراحية حديثة تستطيع مساعدة أختها على الشفاء؟! و لكن هل الشفاء هو الهدف؟ أم إنتهاء المدة هو الهدف؟
عشرة ألاف جنيه أو يزيد تصرف بزهو لتنعي البيضة الزفرة أختها التي مششتها بل و نحرتها ثم ..ثم نعتها .. لكن نصف هذا المبلغ أو ربعه لن يصرف على علاج من كانت" ُتحكى لها يوم حكاية عن قصة حب و قلبين.. " لأن بها صارت دنياهم أسوأ "

و أخيراً يا دانة سأختم قصة البيضة الزفرة بحادثة أو واقعة جرت عقب وفاة زوجها .. فقامت الزوجة صباح يوم الوفاة بارتداء الملابس الزاهية و ذهبت للمصرف و حولت كل ما كان في حساب زوجها إلى حسابها بالتوكيل الذي كان لديها ..ثم عادت سريعا لبيتها و إتشحت بالسواد إستعداداً لإستقبال المعزين لتلقي العزاء في الفقيد الغالي و قامت بالإتصال بأبنائها على هذا النحو : ألو.. أبوكم مات.. و تراخ ..أغمدت السماعة في وجوههم!

و ذهبنا للعزاء و كانت هذه السيدة لا تلمس مني أي تعاطف معها.. بل أعتقد أنها كانت لا تخطئ نظرات الإزدراء التي كنت تصدر عني .. فأرادت إستغلال لحظة مواساة الجميع لها بسبب وفاة زوجها فأخبرتنا أنها تشعر بدنو أجلها خاصة أنها رأت في المنام أنها ترتدي عقد من ثلاث طوابق.. معتقدة أن شيئا سيطبق على أنفاسها فستموت!
والغريب - يا دانة - أني انبريت في تفسير هذا الحلم لها- مع أني ليس لي في الفتوى و لا في تفسير الأحلام و لا غيره- و لكني وجدتني أقول لها : "عقد من ثلاث طوابق.. ما شاء الله .. و مع ذلك خائفة من الموت .. لا لا.. ..ابشري ..العقد يساوي عشرة سنوات .. اضربي في ثلاث طوابق .. ما يعني أن أمامك ثلاثون عاما أخرى ستعيشينها يا دكتورة!
فبدا عليها الغيظ الكتوم .. فتفسير الحلم قد سد عليها فرصة إستدرار العطف من الحضور!!
و قد مضى على هذه الكابوس أكثر من 16 عام .. و لا زالت حية تسعى و تعيث في الأرض إعاقة.... تخيلي؟!!!!!!

ليت شعري.. ما لشعري إلا أن يرثيني
أموت فيبكوني .. وإن عشت يهجوني
و إن هاجرت.. استوحشوني
و إن عدت.. تجاهلوني
و إن مت.. رثوني
و بالدمع بكوني
ثم ، ثم نسوني
ليت شعري
ليت شعري كروت ائتمانية
ليت شعري أراض بناء .. غير زراعية
ليت شعري أوراق نقدية
و أسهم و عقارات و شيكات بنكية
(داليا الحديدي)


نموذج آخر - يا دانة- لحالة أخرى عانت من نوع آخر من الإعاقة و هذا النموذج لأخت الكبرى لأخواتها و الأضعف من حيث القدرات الإجتماعية و التعليمية ، فلم تتمكن من إستكمال تعليمها.. رغم أن والديها قد وفرا لها كل سبل الرعاية و الأمان .. و لكن الأمر كان يتعلق بقدرات شخصية .. و هذه السيدة لم تمنح حظ من الجمال و لكنها رزقت عائلة حنونة.. حتى بعد وفاة الأب والأم .. وجدت أخوة و أخوات إحتضنوها بحب.. فهي تعيش معهم عيشة كريمة وتحضر معهم مختلف المناسبات و تذهب لتصفيف شعرها إذا ما أرادت ذلك .. و تذهب لتصيف معهم و مع عائلتهم بل و سافرت معهم أكثر من مرة لأداء العمرة.. و تصاحبهم في النزهات مع معارفهم و تجدينها في كل زيارة معهم.. و مع أولادهم فى نادي الصيد .. و صورها تملأ البومات الأسرة.. لا أحد يخجل منها كأنها عار، و لا أحد يتعامل معها و كأنها "بيضة ممششة " أو سم قاتل .. بل إن إسمها القديم قد استبدلوه باسم دلع جميل و محبب .. و الجميع ينادونها به.

و رغم أنها لا تملك سوى نفس القدرات الاجتماعية البسيطة و اللسان الثقيل المتلعثم.. إلا أنها تحيا حياة أقرب ما تكون للطبيعية و تمتلك كل مقومات الحياة الكريمة ..

لم يغلق عليها باب غرفة قط و لم تحبس أو تسجن قط .. كما أنها تشعر بالآخرين.. و يشعرون بها .. و كثيرا ما أقيم لها إحتفالا بعيد ميلادها .. وأعتقد أنها كانت من الممكن أن تحظي بحياة أفضل لو أتيح لها تعلم أي مهنة أو حرفة أو تنشغل بأي هواية.. إلا أن مجتمعنا ينقصه - يا دانة - مؤسسات كبيرة و على مستوى عال لتعليم هذه الفئات..

أما لو وافق أخواتها من زواج أختهم بالكهربائي الذي أرادت الإرتباط به.. فأنا عن نفسي كنت أرى ذلك سيحسن من وضعها.. فتكوين عائلة و الانشغال بمشاكل الأبناء أمر يطور من قدرات الفرد .. و لكن هيهات.. بالطبع لم يوافق الإخوة أن يزوجوا أختهم الكبرى ممن هو غير كفء لها.. لا خوفا من إستغلال ميراثها.. و لكن خوفا عليها.. فهم لا يرون في أختهم أي ميزة تجعل رجل يرغب في الاقتران بها، اللهم سوى طمعا في مالها.

شكراً لأصحابي فلولا حبهم لم أقترب من عالم اللألاء
بهم اقتحمت العاصفات بمركبي و بهم عقدت على النجوم لوائي
من كان يحلم بالسماء فإنني في قلب إنسان وجدت سمائي
يا صحب لم أنسى جميل صنيعكم حتى تفارق هيكلي حوبائي
(ابو ماضي)

" المال و البنون و الإعاقة "

محمود:

ابني البكر الصغير الذي طالما انتظرته وما أن وهبته إلا و تخيلت نفسي ليلي مراد في أحد أفلامها .. و تصورت مخرج الفيلم أنور وجدي يجعلها تدور مرتين بفستانها "الكلوش" .. ما يوحي للمشاهد أن العمر قد جرى و أن ليلي مراد قد كبرت و كبرت معها ابنتها الصغرى لتصبح هي الأخرى ليلي مراد..

أعتقد أن الأمر ليس تخيلات.. فأنا أذكر أنني حينما كنت في عمرك ..رفعني بابا جدو محمود من الأرض ليرقص معي رقصة التانجو و هو يحملني و يحتضني و لف معي لفتين.. و ها أنا ذا قد تزوجت و أنجبتك .. فقط لفتين و مضت السنوات و مضى الزمن!
كم أتعجب للشبه بينك و بيني يا محمود.. خاصة حينما كنت في عمرك وأكثر ما يدهشني أنك ما أن تشاهد صورتي و أنا صغيرة إلا و تضحك ضحكتك الشبيهة بضحكتي و أنت تقول: "محمود أهو"!

كم أود أن يجري العمر بأسرع ما يجري و في لمح البصر .. أراك يوم عرسك تجلس و يدك في يد عروسك الحبيبة و أنت تحتضنها بحب و سعادة في ليلة عرسك.

أراك اليوم أمامي لا يعنيك سوى" بارني" و " نودي" و" فلة" و "هانتاروه" و" توم و جري" و "سبيس توون" و "شاطر شاطر".. و" شخبط شخابيط" و "جينجل زون" و "سيركس لاند" .. و لكني أعلم أن قانون التغير هو وحده الذي لا يتغير - إذا استثنينا الله سبحانه و تعالى- و كم أود أن تتفهم خشيتي على مستقبل أبنائي و ترقبي هذا التغير الذي أدعو الله أن يكون للأفضل .
كم أدعو الله أن تدوم حنيتك و تزيد.. و تعم على كل من تعرف و تفيض.

كم أود لو أعرف كيف ستذكر طفولتك و صباك و جهلك ومراحك و عبثك.. كيف ستراني أنا و بيك بعد أن نتوارى في خزانة التراب؟ هل ستذكر " تتر" أو سنواتك الأولى في قطر؟
هل ستذكر الأجازة في مصر.. هل ستذكر سفرتنا لمكة و" تراك الكعبة " كما كان يحلو لك أن تسميه؟
هل ستذكر وجهي في الصبا ؟ هل ستراني صائبة ؟
هل ستذكر لهونا و مرحنا في مروج الدوحة و مراتعها و عبثنا على شواطئ الخور و سواحلها؟ هل ستظل تترجم لي ما تريده أختك الصغيرة لإعتقادك انك وحدك من تفهمها .. هل ستظل تحنو عليها و تحفظ؟ أم ستقول:

رب شخص عشت معه زمناً ألهو و أمرح
أو مكان مر دهر و هو لي مسرى و مسرح
لاح لي في البعد أجلى منه في القرب و أوضح
كيف يبقى رسم شيء قد توارى..؟!
لست أدري
(أبو ماضي)

سأقص لك- يا محمود- نماذج أخرى التقيت بها في المجتمع ..أحد هذه النماذج يتعلق بشخص .. جده كان بمثابة ساويرس القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين أو لو شئت الدقة أحمد عز .. رجل أعمال .. تجاوزت أعماله حدود مصر.. عندما ارتأى بعقليته أن الأوضاع في مصر قد تتغير .. قرر مد نشاطه لما كان يعرف بالحبشة - أثيوبيا حاليا ً- حتى قيل أن إمبراطورها "هيلياسلاسي" خاف من تزايد نفوذه .. فقام بتأميم ممتلكاته.. و رغم ذلك لم يصب الرجل بنقطة و لا حتى بارتفاع ضغط الدم .. بل اتجه غربا و راح يستثمر في إيطاليا بالإضافة لأعماله التجارية في مصر.. حتى أنه مات في إحدى سفراته العملية.. و ترك أربع أبناء كلهم بلا إستثناء رزقوا "المال و البنون.. و الإعاقة " فأحد أبناء هذا الثري قطعت إحدى قدميه و قضى نحو ثلاثون عاماً بقدم واحدة .. أما الإبن الأخر فكان شديد الطيبة و الكرم و المروءة.. و كان ناجحاً في عمله إلا أنه لم يتفوق على والده.. بل أصيب بأزمة قلبية لدى سماعه لخبر تأميم عدد من أصدقائه ! رغم أن الثورة لم تأممه هو!! إلا أن القاعدة "أمم فلان يخاف و يمرض السايب"

و تركت هذه الأزمة أثرها على صحة الرجل الكريم الذي كان مثقل بالمسؤوليات والهموم.. فقد كان يمتلك ثروة من الأبناء تزيد على ثروته المادية.. إلا أن احد أبناؤه مات و هو في السادسة عشر من عمره .. فلم يتحمل قلب الرجل الرقيق هذه الصدمة و رحل بعده بعامين تاركا عدد من الإخوة و الأشقاء.. و لكن...

الأخوة و الأشقاء

و من بين أبناء هذا الرجل .. كان هناك - يا محمود – أبن لديه إعاقة ما.. متعثر في دراسته.. أو لنقل .. لم يكن يريد استكمال دراسته - ربما لضعف قدراته- و كان يفضل التزويغ من المدرسة و الذهاب للسينما.. كما كان أقل مهارة من باقي إخوته..

و في حياة والده، رفض الأب رفضا قاطعا أن يترك الابن دراسته.. و لكن عقب الوفاة .. صمم الولد على ترك الدراسة .. و بدأت سلسلة التدهور.. استمر في الذهاب للسينما.. استمر في مصادقة أشخاص غير أكفاء .. كان يذهب للنادي أحيانا مع إخوته .. و شيئا فشيئا .. اتسعت الهوة بينه و بين أخوته.. كما أن قدراته الاجتماعية كانت ضعيفة للغاية و بعد موت والده.. فقد من كان يعتني و يهتم و يغتم بشأنه..

و تخرج باقي الأخوة أشقاء و غير أشقاء .. و بدأ البعض يعمل و بدأ البعض يتزوج و الكل بدأ يستقل .. أو يريد أن يستقل بعد الزواج.. و بدأت الأخت تتذمر من وجود الأخ معها في البيت كون زوجها يضيق من وجوده - رغم أن نصيب الأخ في البيت ضعف ما لها.-
و كان لهذا الأخ الصغير أخوة وأشقاء.. بعضهم طيبون للغاية يودونه .. يستضيفونه و أسرته.. يصورنه معهم .. يسألون عنه و عن أسرته .. والآخر نفعيون للغاية .. يسألون ماذا أخذ؟ و كم اخذ ؟ و كله بحسابه.. و إذا ما زارهم استقبلوه بدون ترحاب و إذا مشى من عندهم تنفسوا الصعداء!

و بدأت الضغوط والاقتراحات .. و ماذا نفعل؟
و أعلنت الأخت أن والدها كان دائما ما يخبرها أن هذه الشقة خصصها لها لتكون لها
" أمااااان للمستقبل" و شيئا فشيئا .. تنازل الجميع عن حقهم في البيت لها.. و تنازلوا أيضا عن حق أخيهم الصغير"!
و بما أن هذا الأخ الصغير لم يستكمل تعليمه.. فلم يتمكن أيضا من العمل .. و لكنه أعلن رغبته في الزواج ممن وافقت عليه.. و رحب الأخوة الطيبون بهذا الأمر.. و تذمر الباقي.
: " و بعدين.. الجواز ده هيكلف.. و إن شاء الله هتتجوزه على إيه؟! ما أكيد طمعانة.. و بعدين البتاع اللي هيتجوزها دي لا منظر و لا عيلة.."
و الغريب - يا محمود- أن قضية زواجه قد تم تمريرها .. و تزوج رغم إعتراض بعض أخوته و عدم ترحيبهم .. إلا أن البعض الآخر قد يسر له الزواج بعد محاولات إقناع مضنية مع باقي الإخوة..
و رغم أن حياة الأخ الصغير تعتبر أقل من حيث المستوى الإجتماعي و المادي مقارنة بباقي إخوته .. إذا أخدنا في الاعتبار مستوى بيته و عدم امتلاكه سيارة و مستوى المدارس التي يدرس فيها أبناؤه .. إلا أن فرصة الزواج قد حسنت من شخصية هذا الأخ بدرجة كبيرة .. فقد باتت له قضية ينشغل بها وأبناء يهتم بهم و يذهب معهم إلى المدرسة و يعود بهم من المدرسة وأصبح لديه زوجة.. يتشاجر و يتصالح معها.. و تمكنت أخته من إعادة إدراج إسمه في النادي الذي يشتركون فيه ..

و رغم المشاكل التي إشتعلت بين زوجة هذا الأخ و بين بعض أخوته.. فهما يريدان إعطائه حقوقه عيناً.. لا نقداً.. بدافع حمايته.. و مشكلات بسبب شكواهم من إسراف زوجته و استغلالها المادي له.. إلا أن هناك من يتفهم هذا الاستغلال ..

لأن المحصلة تكون في صالح أسرة هذا الأخ .. فإستغلال الزوجة رمانة الميزان لمعادلة كفة سيطرة بعض أخوته النفعيين .. كما أن إستمرار بيته و كيانه العائلي أفضل بكثير من حياته بدون زواج و بدون أولاد و زوجة حتى لو كانت مستغلة!

فكيف لها ألا تقارن مستوى معيشتها بمستوى معيشة أخوته؟!
تطالب بسيارة .. و تطالب بحجز مصيف سنوي و تطالب بملابس العيد و ملابس الشتاء و ملابس الصيف و مصاريف المدارس و مصاريف الدروس الخصوصية لأبنائها منذ " كي جي 2 " .. و تكاليف كروت شحن الهواتف النقالة للأبناء منذ الصف الابتدائي.. و تصمم على الحصول على "باقة الأوائل" عشان الأولاد يتسلوا !
بينما الإخوة يدعون أن السيارة خطر علي أخيهم لأنها قد تتسبب في حادثة تذهب بروحه.. رغم أن عدم امتلاكه لسيارة كاد أن يودي بحياته يوما ما، حينما دهسته عجلات أتوبيس و هو يعبر الطريق.
كما أن هذه السيدة دخلت بيوت أخوته.. و إستخدمت بصرها في المشاهدة و المقارنة.. و رغم أنها تعيش في مستوى لائق و كريم مع زوجها إلا أنها تقول:" إشمعنى" .. ما هو له نصيب في الميراث كذكر مثل حظ الأنثيين ! " و بعدين أنا سامعة إنه وارث مليون جنيه.. راحوا فين؟ !!"

"إشمعنى".. دعوة للمساواة

تعرف يا محمود:

في أحد أيام الجمعة في الثمانينات .. كنت استمع لأمال فهمي في برنامجها " على الناصية" و كانت تقول أنها تؤيد و بشدة مصطلح" إشمعنى" لأنه يحتوي على دعوة للمساواة إلا إذا قيل لله .

وكم تفهمت دعوات "اشمعنى" التي طالما أطلقتها هذه السيدة لأنه من المهم أن يأتي من يذكرنا بحقوق الآخرين.. طيباًً كان أو لئيماً.. يذكرنا بحقه في إقامة أعياد ميلاد مقارنة بالمثل.. يذكرنا بحقه في حضور كافة المناسبات مقارنة بالمثل.. يذكرنا بحقه في أن يعامل كشخصية إعتبارية و ليس كشخصية مهمشة تهان من أي كائن ما كان.. حقه في التقدير .. حقه في الترحيب.. حقه في التعبير.. حقه في أن يكون له الأولوية .. لا أن يكون في ذيل القائمة دائماً! يذكرنا في حقه أن يتم دعوته هو و عائلته و الإلحاح عليه و الإتصال به و السؤال عنه و تحريض الأبناء على الاهتمام به.

هل تصدق يا محمود؟ أن أحد أخوات هذه الرجل كانت تزوره و تقول له:" أنا اشتريت لك خضار وجيبت لك فاكهة و جيبت لك لحمة عشان الثلاجة و اشتريت للولاد ملابس العيد و اشتريت لكم كعك العيد و اشتريت لك ملابس جديدة .. ما أنا عارفة.. لو مراتك مسكت الفلوس.. مش هتجيب لك حاجة.. و هتقعد باللبس الوس .. اللي عليك" !!!

و الحقيقة أنها كانت لا تشتري أي شيء له من مالها الخاص .. بل من أرباح وديعة تركها له والده.. فهذا الرجل لم يتم صرف مليم عليه سوى من خير والده الثري و مع ذلك يأتي من يقول" جيبت لك و اشتريت لك و عملت لك" مع أن جميع هؤلاء الأخوة بأولادهم و أحفادهم يستفيدون و حتى يومنا هذا من خير هذا الرجل .. و شيئا فشيئا تصدق نفسها أنها هي التي تشتري و هي التي تجيب مع أن كله بالخصم من ميراثه!!

و رغم ذلك فالصورة ليست قاتمة - يا محمود- فليس كل الأخوة و الأشقاء على نفس الشاكلة.. فلهذا الرجل أخت غير شقيقة تصر سنويا على دعوته و أسرته في رمضان .. رغم أن إحدى شقيقاته تتذمر إذا ما رأته مدعواً في أي وليمة مخافة أن ترى زوجته التي تكرهها!
كما أن بعض أخوته الطيبين يقدمون له المساعدات في السر خشية أن تعرف أخته انه حصل على أي مال إضافي .. رغم أن الله أحق أن يخشى –
و فرق كبير من المجاهرة بإعطاء الإنسان حقه لإثبات حقه الإعتباري في أن يحصل على كل ما يحتاج في العلن و النور .. و بين تمرير هذا الحق في الخفاء - و كأن الأمر يتعلق بتمرير تربة حشيش من الجمرك - فهناك من الإخوة الطيبون من تراهم مذبذبون و حيارى بين رغبتهم في أداء الواجب و خوفهم من إغضاب أحد.. فالبعض - أبدا لن يقول للمخطئ أنت مخطئ في وجه و لا حتى خلف ظهره - و يتركوه لضميره- صحي صحي .. نام نام- بل و يختلقون له مئات الأعذار!
و كم أسخط يا محمود على الطيب السلبي أكثر من سخطي على النفعي المجاهر .. لأنه لولا الحمائم ما توحشت الصقور .. كما أنه

فإما أن تكون أخي بصدق فاعرف منك غثي من ثميني
و إما فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك و تتقيني

أليس الصديق مرآة صديقه؟ فما بالنا بالأخ خاصة لو يمتلك مكانة و تأثير على باق إخوته.
هل كان سيستعصي على الله خلق جميع الإخوة أسوياء .. أغنياء.. على نفس المستوى من القدرات و المهارات و الإمكانيات.. بلا ضعف أو إعاقة ذهنية كانت أو اجتماعية أو عملية ؟
ألم يكن الله قادرا على خلق هذا الأخ غنيا كوالده أو جده .. لا يحتاج لأحد.. و لكن هل خلقنا الله كي لا نحتاج لبعضنا ؟أم زودنا بالنقص ليكمل بعضنا بعض؟ نعاونهم بالمادة ..فيمنحونا من أواحهم الطاهرة ما يزيدنا رحمة .. فنستوي روحياً و جسدياً برضاء المولى علينا.

و فرضا لو قام كل إنسان بأداء واجبه وأعطى كل ذي حق حقه .. ألا يوجد فرق كبير من أن أعطي الإنسان حقه علناً و بين أن أعطيه حقه كمنحة أو هدية أو بقشيش.
فالأولى تحفظ له كرامته و الثانية تحفظ له البقاء فحسب!
و لكن الأخوة الطيبون كانوا يخشون من أن تؤدي المواجهة إلى صدام يستطيعون تجنبه و الفرار منه .. طالما أنهم يستطيعون تمرير الحقوق لأصحابها.. فكانوا يختارون دوما الفرار من المواجهة.. يرمون الحق لصاحبه و يفرون من القناص مخافة شدته يوم الحساب .. فيمرر الحق ليلا في الخفاء و يعيش الأخ حياة بلا عزة أو إباء.. و يظل الوضع قائم إلى أن يحين القضاء.

أيها الهارب إن العار في هذا الفرار
لا صلاح في الذي تصنع حتى للقفار
أنت جان أي جان .. قاتل في غير ثار
أفيرضى الله عن هذا و يعفو؟
لست أدري
الطلاسم ( أبو ماضي )


محمود:

كثيرة هي النماذج الموجودة في الحياة و التي أرجو أن ترزق إستبصارها لتتمكن من معرفة حكمة الله منها.
حتى هذا الرجل الذي سأروي لك قصته.. أستطيع أن أخبرك انه لا فرق كبير في قدراته الذهنية و العقلية بينه و بين باقي النماذج سالفة الذكر.. إلا أن الله قد منحه أب معتبر لم يفارقه إلا بعد أن تخطى الابن منتصف العمر .. و وهبه الله أم - أطال الله في عمرها- رغم أن سنه قد جاوز الستين.. و بدا الإبن مختلفاً عن أخوته بشكل منذر بأن مستقبله سيكون حافل بالصعوبات التي ستمثل له إعاقة عن اندماجه في المجتمع.
إلا أن الأب كان ذو عقلية فذة و كانت الأم ذات رعاية فائقة .. فتمكنا من بناء شخصية إبنهم و توفير حياة طبيعية له.. حتى أنهما دفعاه في التعليم رغم صعوبته حتى حصل على دبلوم في السياحة و الفنادق و إشتريا له شقة مثيلة لشقق باق أخوته في المستوى.. و زوجاه و أعاناه على معوقات الحياة.. فعمل و تعثر في عمله و عمل مرة أخرى و تعثر مرة أخرى و كلما تعثر و أعاقه عائق.. لم يقول الأب و الأم " كفا " بل كان الدعم .. كل الدعم مستمر و الدفع دائم مع الإيمان بقدرة الله على تحسين وضع الابن و الإيمان بأن الله قد وهب كل إنسان قدرات تجعله قادرا على العيش الكريم إذا ما وجد رعاية و عناية و حب و حب و رحمة و حنان.. كما وهب هذا الأخ دعما كبيراً من أخوته مادياً و معنوياً و عملياً.. فخرج للمجتمع إنسان سليم كان من الممكن أن يطلق عليه و بسهولة لقب "سكسونيا ".
كما أذكر لك حالة طفل كنت لم أفهم لماذا كان يضرب رأسه في المقعد ألف ضربة في الساعة تقريبا .. حتى عرفت لاحقاً أن هذا الطفل كان مصابا بالتوحد .. يعيش وحيداً في غرفته.. و لكن فضل الله عليه كان كبيرا.. فقد وهبه أم داعمة رغم ضعفها الشديد.. و أراه اليوم و قد تبدل و تحول و قد أكمل دراسته و يستعد للعمل.
قِـيـمَـةُ الإنْـسَانِ تَـبْـقَى مَا تَـبـقَّى الْخُـلْـقُ أرْقَـى
وَيَـزِيـدُ الْـمَـرْؤُ شَـــأْنـا كُـلَّــمَا يُـنْــتِـجُ حَــقَّـا ً
كَـمْ مُـعَـاقٍ مُــنْـتِـجٍ مِـنْـهُ سَــلِـيـمٌ يَـــتَــلَــقَّى
عَــوَّضَ اللَّــهُ لَـهُ الـنَّــقْـصَ بِـمَا لَـمْ يُـبْـقِ فَـرْقا
هَـكَذَا تَـغْـدُو الإعَــاقَـة عِـنْدَ أهْـلِ الْعَـزْمِ طَـاقَـهْ ْ
فَـإذَا أُولُــوا اهْــتِـمَـامًا وَاعْــتِــبَـارًا وَ وِفـاقـاَ
حَمَلُوا أقْـسَى الْعَـنَا وَاخْـتَـرَقُـوا الصَّـعْـبَ اخْـتِرَاقَا
(بشير مفتاح)

و أخشى يا محمود أن تلتق في يوم من الأيام بأشخاص طبيعيين .. ثم تلتق بهم بعد فترة فتراهم قد تحولوا لمعاقين .. و الأسماء لا حصر لها و لا داع لذكرها.. و لكن قائمة من سحقهم معوقين و معوقات الحياة فحولتهم لمعاقين ثم لمنتحرين لا حصر لها ..
و القائمة تضم أسماء كثيرة من المشاهير و المجاهيل .. و كلاهما اجتمعا على عدم التمكن من التغلب على إعاقات الحياة من أشرار هدامين و مدعي طيبة محبطين.
هل تعلم - يا محمود - أن" ارنست هيمنجواي" قد مات منتحرا رغم كونه الوحيد الذي حصل مرتين على جائزة نوبل؟!
و هل تعلم أنه رغم موت الشاعرة القطرية المعاقة" صدى الحرمان " إلا أنها أحيت الأمل لدى مئات المعاقين حينما كتبت لهم قصيدة " يا معتقد بالضعف"

عمر الإعاقة ما توقف مـدادك مـــدام عزمــك مــا يخونك مـداده
لا..لا تفكر عاجز الحيل عادك الواصل أنت وفي اجتهادك شهادة

الإعاقة .. أقسى أنواع الغربة

أخشي من استمراري في ذكر الأسماء.. لكن كم أود أن تعوا يا أبنائي جيداً أننا كلنا معاقون بشكل أو بأخر.. و أن عدد الإعاقات التي ستقابلكم في الحياة لا يمكن حصرها.. و لكن لا مكان للمعاق في القلوب أو الوجود .. فالمعاق هو الإنسان الذي فرضت عليه أقسى أنواع الغربة .. فهو غريب ليس فقط خارج وطنه أو داخله و لكنه غريب بين أهله و عائلته .. كل ما يقوله أو يفعله يدخل في بند الغرائب المستنكرة.. لا يستساغ له طريقة أكل أو ضحك أو كلام أو تعامل .. لا يقبل منه أي قول أو فعل أو تعليق .. عار على العائلة و بلاء يرجى رفعه و لو بالموت.. يحتاج للحب و يفتقد لتقدير الذات، و لا يلقى إلا الشعور بعدم الكفاءة والتضخيم من التأثير السلبي لإعاقته على قيمته كإنسان و قيمة من يمت لهم بصلة.

يظهر مكتوب علينا الشقا طول عمرنا
نعيش أغراب هناك و نموت أغراب هنا
يظهر مكتوب علينا نخاف من أهلنا
نتخض من الحرامي .. نترعب من المحامي
و جيه اليوم اللي بقينا فيه نخاف من نفسنا
(داليا الحديدي)

لأنه قلما يتذكر الأسوياء أنهم يرزقون بضعفائهم أو بمعاقيهم .. فقلما نعي أنه:

قد يقيني الخطر.. الشوك الذي يجرح كفي
و يكون السم.. في العطر الذي يملأ أنفي
إنما الورد.. هو الأفضل في شرعي و عرفي
و هو شرع كله ظلم .. لو تدري
( أبو ماضي)

محصنة أم معاقة ؟

و دعني أشرح لك كيف تكون الإعاقة البشرية أشد خطورة على الإنسان من الإعاقة لذهنية.
فاعرف سيدة أعيقت عن الإنجاب، و رزقت بأهل زوج ينغصان عليها حياتها و يتهمونها بالعقم.. كما رزقت بأم شديدة لا يعنيها سوى حصول ابنتها على الطلاق و باقي حقوقها المادية من زوجها الذي تتهمه هو بالعقم و البخل و كل الآفات المركبة.. فكيف لحياة أسرية أن تستمر في ظل هذه المعوقات ؟!
كما رزقت هذه الحالة، بزوج مهمل.. يتعمد إهانتها و إهمالها خاصة أمام أهله.. فلا يثني على أي شيء تتميز به سوى طبخها و تنظيفها البيت و لا يشكو منها إلا إذا قصرت في المطبخ و تنظيف البيت.. و يصورها على أنها خادمة في البيت تعمل بلقمتها.. فوجدت هذه السيدة نفسها محاطة بسلة إعاقات تصيب النفس و الجسد معاً ..
فشرعت في تدمير نفسها.. بدأت تدخن.. هجرت الصلاة.. ثم راحت تسمح لزملائها بالتحدث معها فيما يخص مشاكلها مع زوجها.. و صارت تتباهي أمام أهلها أنه رغم كون زوجها يهددها بأنه " سيعطيها بالجزمة " إلا أن زميلها الفلاني مقدرها ومتعاطف معها .. فحينما علم بمرضها الذي أصاب قدميها .. احضر لها شبشبا مريحا ووضعه تحت قدميها في المكتب .. ثم بدأت تسمح لزملائها بالاتصال بأهلها لتقول للجميع .. أن هناك من يهتم بي و يقدرني .. و إذا كان زوجي لا يقدرني و لا يعبا بي أو بأهلي .. فهناك من يضع الحذاء تحت قدمي.. و بدأت هذه السيدة تشعر أنها لا تحترم زوجها كونه أجبرها على أن ترخص نفسها و تقبل الإستماع إلى كلمات مجاملة رخيصة .. فبدأت تشكو من زوجها للجميع .. تشكو من شحه المادي و بخله العاطفي و إهماله و إذلاله لها ..
ثم تلقت نصائح ترشدها إلى حقها في الأخذ من مال زوجها من خلف ظهره .. فإزدادت كراهيتها لمن إضطرها لمد يدها بإستخدام وسائل وضيعة .. و شيئا فشيئا بدأت في عدم إحترام ذاتها .. فإضطربت نفسياً مما أثر سلبا على صحتها العامة.. كما شرعت تعامل الناس بقسوة و بنفس الأسلوب الذي تتجرعه من زوجها و أهله.. و جربت مختلف الأساليب كي تستنفر رجولة زوجها البخيل.. فهو يتباهي انه لا يصرف عليها إلا بالقليل أو أنه إضطرها لبيع مصاغها، كونها تجاهر بعدائها لأهله.. و لا زال يضيق عليها و يعيقها في أن تعيش حياة كريمة .. حتى قررت أن تهجر البيت عله يشعر بغضبها.. فتركها ترن و تئن في بيت أهلها.. و هي من كانت تأمل أن يحن إليها و يأتي لمصالحتها.. فلم يفعل.
و هناك لم تجد دعما من أهلها.. فكل ما كان يعنيهم هو ضمان حقها المادي خوفا من هاجس عدم إنجاب ابنتهم .. لذا أصدرا حكم الطلاق لأن..
و عشرات من "لأن" و مئات الأسباب ستختلق - يا محمود- إذا قرر الأهل ضرورة طلاق أحد أبناؤهم..
ووجدت الإبنة نفسها بين شقي رحى .. فهي لم تهجر بيت الزوجية للتطليق.. بل للتعذير.. هي تريد أن تشعر زوجها أنها يعيق حقها في أن تعيش حياة كريمة ..
*هو يركن سيارته و لا يستخدمها و يتركها تلتحم مع العامة في المواصلات بدعوى" ما أنت طول عمرك بتركبي أوتوبيسات" فأدركت أنها- إسماً - زوجة محصنة و فعلاً زوجة معاقة .. فشريك العمر ليس الحصن المنيع الذي يقيها الشرور .. فكان أنها بدأت توافق أن يقوم زملاؤها بتوصيلها لأقرب مكان من بيتها .. ثم شرعت في السماح بإزالة شيء من المسافات بينها و بين الزملاء حتى سمحت للبعض أن يقترب ليضع الشبشب تحت قدميها .
* لا ينفق عليها أو على البيت إلا فيما يراه هو ضرورياً .. أما احتياجاتها هي فليست مشروعة.." و مش عايزينه .. و مش محتاجينه ".. حتى وظيفتها .. فقد سمح لها أن تعمل و سعى لها في الحصول على عمل بتحريض من والدته كي تحصل على مصروفها بنفسها.. و هي تعلم يقينا أنها لو كانت هي الراغبة في العمل لكان وضع لها ألاف المعوقات و العراقيل في طريقها!

* صارت تخشى أن يعرف الزوج ماذا تحب .. لأنه فورا سيعمل نقيضه .. فإذا علم أنها تحب أن تنادى باسم معين .. امتنع البتة عن إستخدامه و ناداها بأسوأ نبرة صوت سمعت فيه إسمها إستهزاءا و إحتقارا لها.. يحادثها متثائباً، متثاقلاً حينا وأحياناً لا يرد عليها من الأصل .. وإذا قرر الرد فلا بد أن يكون رد متجهم .. قاطع كالسيف ليشعرها أنه فاض به من كثرة مطالبها و ليثنيها عن التفكير في إبداء أي رغبة أو مطلب!

* عادت لبيت والدها .. فلم تجد من يحتضنها.. بل وجدت من يريد إعاقة حياتها الأسرية و يحرضها على الطلاق و إلا النذير بأنها ستعامل كالكلاب!!
*حتى المال .. صار يعطى لها بالقطارة كي لا تصرفه على الدخان.. و عندما قررت أختها منحها مبلغا شهريا لمساعدتها في أزمتها.. أخفت عنها أمها هذا المال.. بدعوى خشيتها أن تصرفه على أدوات التجميل و كروت الشحن و السجائر.
:." و مش هتاخد مليم غير لما تتعدل و تتربى.. بعدها أبقى أديها "
و ضيقت على الإبنة لتعيد تربيتها من جديد.. فلم تجد من يلطف جراحها فتيقنت أن الزوج بشحه من أمامها و الأم بعنتها من خلفها .. فعادت لشح الزوج " أهو .. خليه يصرف.. بدل ما أكلف أهلي اللي ما استحملونيش.. و مش هيستحملوني .. و ظل رجل.. و لا ظل "

*أعيقت عن الحياة الكريمة في بيت أهلها.. خنقوها كفريسة بأساليب غير مباشرة.. شكوى مستمرة منها ومن تصرفاتها.. شكوى و ضجر منها للغريب و القريب.. ضغوط و تنغيص ..
كما أعيقت عن الحياة الكريمة في بيت زوجها الصياد الذي استغل عدم احتواء أهلها لها وأعيقت عن الإنجاب وأعيقت لحاجتها المادية أو المعنوية له.. و انعكس ذلك على صحتها البدينة.. و بدأت تطلب العلاج .. و إجراء عمليات تعطيها أمل في الإنجاب .. و الزوج في ملكوت آخر:

" ما عندك التأمين الصحي .. روحي لأي دكتور.. و بعدين ما عملتك عمليات قبل كده كام مرة.. مش هنخلص من إصة العمليات والأدوية اللي مش جايبة همها و مش هينوبنا منها غير دفع الفات مؤلفة.. هو حد قال لك أني بأطبع الفلوس دي يا ست أنت .. أنا مش فاضيلك .. أنا عندي ديون متلتلة و مصاريف و أنت.. و لا أنت هنا .."
فتتحايل و تنتظر لحظة صفاء و تعاود فتطلب منه مساعدتها في العلاج لأنها في أمس الحاجة لمساعدته .. فيبدي تعاطفا مصطنعاً.. مستفسراً أو مستهبلاً بسؤال غبي:" طب و أنا أساعدك إزاي ؟! لا قولي لي بجد .. طب أعملك إيه؟ لا حقيقي .. أنا نفسي أساعدك .. بس فطميني على الطريقة.. ما أنا.. أجهزة كهربائية و جيبتلك.. علاج و عالجتك.. أدوية و اشتريت لك .. ها.. عايزة إيه تاني .. خلصينا"

سأل الطبيب مريضه مستفسراً..
قل لي مريضي: كيف أداويك؟!
نادى الراعي رعيته متوسلاً..
قولي خرافي: كيف أراعيكي؟!
ناشدت الأم طفلها مستعطفة
قل لي وليدي: كيف أربيك؟!
استفسر المعلم من تلميذه مستعلماً
قل لي بني: كيف أهديك؟!
خطب الحاكم في شعبه متودداً
شعبي الحبيب : كيف أحميك؟
رد المسؤل على سائله: طظ فيك!
( داليا الحديدي)

فحتى أمل العلاج أعيقت عنه .. مع أنها تريده هو طبيباً و دواء لجراحها و لا تريد و لا تقبل من سواه أي مساعدات مادية للعلاج - تحتاجه هو كزوج مسئول عنها لمصاحبتها في كل خطوة علاج و تتمنى لو يشعر بمسئوليته عنها .. و لكن كيف يعالجها و هو يريد لها الإستمرار في أي شكل من أشكال الإعاقة؟

محمود:

هذه أصداء روحي ، فلتكن روحك أذنا
إن تجد حسناً فخذه و إطرح ما ليس حسنا
إن بعض القول فن ،فاجعل الإصغاء فنا
رب غيم صار لما لمسته الريح مزنا
ربما كنت غنية .. إلا أني بك أغنى
( أبو ماضي)

أحبابي محمود و دانة :

كل ما سبق ليس هواجس حمل.. و لكنها أصداء حياة و مخاوف حقيقية لامستها في دنيانا .. و الذي أخشى أن تلوث ضحكتكما و سعادتكما و براءتكما يوماً ما.. و إذا كنت أحياناً بالسذاجة حتى أدعو الله أن يبقيني بجانبكما لحمايتكما و رعايتكما.. فأني أعود لصوابي و أعلم أن الحامي و الراعي و الولي هو الله وحده .. حسبي .. عليه توكلنا و هو نعم المولى و نعم النصير لي و لرعيتي و لسائر الخلق أجمعين.

اللهم انك تعلم سري وعلانيتي وتعلم خيري و شري و تعلم جوانب قوتي وضعفي و تعلم أني لا حول لي و لا حول لأحد من العالمين و لا قوة إلا بك.
للهم ما أمي ثم أمي ثم أمي ثم زوجي وأبنائي و بيتي.
اللهم ما أحفظهم من كل شرور و من كل المعوقات.
للهم ما جمعت فلا تفرق.
للهم لا تباعد البيض عن الرحم.
اللهم أحمينا من أنفسنا و من كل نفس فاجرة و من كل بلاء.
اللهم أني إستسغت ابتلاءاتك و تقبلتها وأنت تعلم .. ولكني أستغيث بك أن تعفو عن أولادي و تعافيهم و تباعد بينهم وبين إعاقات الدنيا كما باعدت بين المشرق و المغرب .. اللهم و ما في أحشائي فاجعله سليما معافاً وأعف عني و عنه وعن المسلمين المؤمنين الصالحين.
اللهم عليك بالظلمة والجبارين.. و أخذي اللهم أعوان الظلمة أكثر من الظالمين .
اللهم بهم فإبدأ.
اللهم شدد سخطك على القواد أكثر من الزاني.
اللهم لا تمهل للصامتين على الجاني .
اللهم أشقق على المتخاذلين في نصرة المستضعفين بأشد ما تشقق على المستبدين.
اللهم سلط مستغلين على نفعيين و لا تبارك لكليهما.
اللهم عليك " بالبيض الزفر" و أرحم اللهم سواه.
اللهم عليك بالصياد و كل من افترس فريسة من لحمه و دمه أو من لحم و دم سواه.
اللهم ما بارك لمن حرس المرمى طوال العمر و ارفع من شأنه أكثر ممن أحرز هدف في لحظة من الزمن .
اللهم إن كنت ترفع الأسعار و تضيق الخناق عقابا لمن همش الضعفاء وأهتم بالأقوياء .. فضاعف اللهم الارتفاع و شدد تضيق الخناق على الأقوياء الظلمة حتى يفيقوا .
اللهم بارك لمن حرس و رعى و دافع و ناصر و داوم على نصرة الضعفاء و المهمشين و المعاقين .. بارك لهم مسلمين كانوا أو مبشرين أو أي ملة كانوا و غهدهنا و إياهم يا رب العالمين.
اللهم أعنا على تربية أبنائنا و أعنهم على برنا و أصنعهم على عينك .. و بلغهم محبتي حية كنت أو على قيض المنون.

قبلاتي يا أغلى الغاليين.

ماميتو دوللينا
27-2-2008
الدوحة- قطر
-------------------------------------------------------

1 تعليقات:

  • في 8 فبراير 2009 في 11:35 ص , Blogger عبدالله يقول...

    اليوم فقط اول مره اري هذه المدونه الرائعه وبدات في قراءتها لم اتعود ان اقرأ هذا مدونات بهذا الطول ولكنها فعلا رائعه كلمات تصل مباشره بلا حواجز
    قرات اولي رسائلك وساتبع يوميا لاكملها
    اتمني ان اري رسائل جديده قريبا

    تحياتي

     

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية